اخبار

أيها الإنسان .. اعرف نفسك

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

من مفارقات القدر في حياة البشر أن يُريد الإنسان لنفسه أمرًا، ويعمل جاهدًا لبلوغه، ثم تأخذه تدابير الله لأمر مختلف تمامًا، فيشعر بالخسارة والحزن وخيبة الأمل، ثم تُثبت له الأيام أن خسارته الحقيقية كانت فيما تصوره مكسبًا، وأن مكسبه الحقيقي قد تحقق فيما تصوره خسارة.

وقد تحققت تلك المفارقة على أوضح ما يكون في حياة شاعر العرب أبي الطيّب المتنبي (٣٠٣هـ – ٣٥٤هـ)، وفي حياة الفيلسوف والأديب أبي حيان التوحيدي (٣١٠ – ٤١٤ هـ).

فقد عاش المتنبي والتوحيدي لفترة طويلة من حياتهما يحلمان بالقرب من السلطة، ولعب دور سياسي مؤثر في عصرهما، وكلاهما أُقصي بعيدًا عن السلطة، وعاش مغتربًا وساخطًا على الحياة والناس وأهل الحكم.

وقد أدى بهما هذا الفشل في ميدان السياسة إلى الإحساس بالاغتراب عن سياقهما، والسخط على واقعهما، ثم التفرغ لإنضاج موهبتهما الفنية والكتابة عن تجربتهما الإنسانية الخاصة والعامة، وعن ما يدور في نفوسهما وعقولهما، فبقي اسماهما ومؤلفاتهما العظيمة الخالدة، وذهبت رياح الأيام بأسماء رجال السلطة والسياسة في عصرهما.

في هذا المعنى قال الراحل الدكتور إحسان عباس في كتابه “النثر الفني في القرن الرابع الهجري” عن تلك المفارقة في حياة المتنبي والتوحيدي:

“كلاهما قلق متعاظم يريد أن تُبلغه عبقريته الأدبية أقصى الدرجات في الحياة السياسية، ولما لم يجد من يُناصره في ذلك، تفجر أدبه حقداً وثورة. ومن ثم ملأ التوحيدي النصف الثاني من القرن الرابع صراخاً وعويلاً، بعدما ملأ المتنبي النصف الأول من القرن هديراً وزئيراً”.

وهذا التحليل يُعطينا مفتاحًا مهماً لشخصيتهما، ويصورهما في صورة الإنسان الطموح الذي ظن أنه يملك كل مقومات النجاح ونيل المكانة السياسية المميزة والقرب من السلطة، ولكنه اصطدم بأمراض الواقع والحياة السياسية والأدبية، التي حالت بينه وبين حلمه وطموحه.

ثم أثبتت السنين والأيام أن خسارتهما وفشلهما كانا نجاحًا ومكسبًا كبيرًا لهما وللثقافة العربية والإنسانية؛ لأنهما لو نجحا في ميدان السياسية والحكم لخسرا المجد الأدبي الذي صنعته مؤلفاتهما، وهو المجد الأكثر حضورًا وتأثيرًاً واستمرارية.

وهذا ما أكده الأستاذ عباس محمود العقاد في كتابه “مطالعات في الأدب والحياة”، عندما كتب يقول عن أبي الطيب المتنبي:

“الحقيقة أن المتنبي جهل نفسه، ولم يكن صادق النظر في أمله، فأضله الأمل الكاذب عن كنه قدراته وطبيعة عظمته، وأحس في نفسه السمو والنبالة، فظن أن السمو لا يكون إلا بين المواكب، وأن النبالة لا تصلح إلا لذي تاج وسلطان وصولجان وعرش وإيوان، فطلب الرجل الملك جادًا في طلبه، وجعل الشعر آلته ريثما يبلغه، فبقيت الآلة الموقوتة، وذهبت الغاية المطلوبة.

وقد ظل المتنبي يسعى طول حياته إلى شيء، وأراد الله به شيئًا آخر. فأحسن الله إليه من حيث أراد هو أن يسيء إلى نفسه، فهو اليوم أظفر ما يكون خائباً، وأخيب ما يكون ظافراً؛ ليس بملك ولا أمير ولا قائد ولا صاحب جاه، ولكنه فخر العرب وترجمان حكمتهم، والرجل الفرد الذي نظم في ديوان واحد ما نثرته الحياة في سائر دواوين التجارب والعظات”.

وفصل المقال “أن كل امرئ مهيًأ لما خلق له”، وعليه “أن يعرف نفسه” كما تقول الحكمة اليونانية الشهيرة، ويستكشف مواهبه وإمكاناته الأصيلة، وجوانب تميزه؛ ثم يستثمر فيهم بما يُثري وجوده ويصنع نجاحه الحقيقي وتفرده؛ حتى لا تُضلله الأوهام ولا تخدعه التصورات الزائفة عن الذات والدور والمكانة، ليُبدد عمره فيما لا جدوى منه، ولتُصبح في النهاية هزيمته وخسارته فيما ظن أنه نصره ومكسبه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى