اخبار

النخبة المصرية ونزاهتها الفكرية

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

ما أكثر الرجال العظماء الذين حفل بهم تاريخ مصر الحديث، وكان موطن عظمتهم أنهم عشِقوا وطنهم، وأحبوا شعبه، وبذلوا الوقت والجهد ليقوم هذا الوطن من عثرته، ويشفى من أمراضه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وينهض ويتطور ويتقدم؛ ليحتل المكانة التي تتناسب مع تاريخه ومقوماته المادية والثقافية والحضارية.

وهؤلاء هم نخبة مصر الحقيقية من رجال العلم والفكر والدين والاقتصاد والسياسة، الذين تحلوا دائمًا بسمات شخصية وفكرية مميزة، وكانوا مصدر قوة مصر الناعمة، وصانعي أسس ومقومات قوتها الصلبة.

وفي كتاب “فجر الضمير المصري الحديث”، الذي حاول السياحة في وجدان مصر في القرن التاسع عشر وبعض ما عاشته مصر في القرن العشرين، تعرض الشاعر الراحل صلاح عبدالصبور لمواقف من حياة بعض رموز النخبة المصرية الحقة وسيرهم التي تبدأ بشيخ الأزهر الشيخ حسن العطار، ومن بعده الشيخ رفاعة الطهطاوي، لتمتد في الزمان إلى كل مَن يكتب حرفًا صادقًا في هذا الوطن، صحفيًا كان أو أديبًا أو عالمًا أو مفكرًا.

وقد رأى صلاح عبد الصبور أن تلك النخبة كانت دائمًا هي “شرف مصر وعنفوانها، وشارة تجددها ومواجهتها مصائر الزمان”، وأن أهم ما ميز أفراد تلك النخبة الحقيقية عن غيرهم من أبناء المجتمع والمشتغلين بالشأن العام هو “النزاهة الفكرية”.

والنزاهة الفكرية عند صلاح عبدالصبور هي القيمة الخلقية الأولى التي يجب أن يتحلى بها أفراد النخبة من أهل الفكر والتأمل والبحث والكتابة؛ فهي التي تُبرر وجودهم، وتمنحهم تميزهم في المجتمع، وتمنحهم دورهم في القيادة والتوجيه.

ويمكن تعريف النزاهة الفكرية بأنها: “المقدرة على تخليص النفس من تحيزاتها وأهوائها، ومحاولة النظر إلى الحقيقة في قلبها وصميمها، واعتبار الحقيقة هدفًا يُطلب لذاته بغض النظر عن انتماءاتنا وميولنا”.

أي أن جوهر النزاهة الفكرية التي ميزت النخب عند صلاح عبدالصبور هو الإخلاص للحقيقة والوطن فقط، والتجرد عن الهوى والمصلحة الشخصية، فيما يقولونه ويكتبونه ويفعلونه وفي البعد عن القيود والتحيزات التي تتسبب فيها الانتماءات والميول الأيديولوجية والسياسية الضيقة.

ولهذا يرى صلاح عبدالصبور أن كلمة “النخبة” تُظلم كثيرًا عندما تُلحق بأهل الثراء المادي أو أهل السلطة؛ فالنخبة الحقة في أي مجتمع هي نخبة العقل والفكر، التي تستهدف في قولها وفعلها الصالح العام، وخدمة المجتمع، وهي وحدها التي تستحق أن تُسمى بهذا الاسم.

كما يرى أن الانتماء إلى “النخبة” ليس ميراثًا أو منحًا، بل يأتي اكتسابًا بعد امتلاك سمات ومهارات وفضائل معينة يحتاجها المجتمع.

منها فضائل تُنسب إلى عالم الأخلاق مثل الصدق والنزاهة والتجرد والكرم وغيرها.

ومنها فضائل تُنسب إلى عالم القيم والمهارات، مثل القدرة على التفكير، والقدرة على الحسم واتخاذ القرار في المواقف المختلفة، وتنمية الإحساس بمعنى الولاء للوطن والتاريخ، والجراءة على اكتشاف حلول جديدة للمشكلات والمُعضلات التي تواجه الوطن، واستشراف المستقبل.

ولهذا يُقسم صلاح عبدالصبور حياة أفراد النخبة الحقيقية لثلاث مراحل لا يمكن أن يصير الإنسان من النخبة إلا إذا مر بها مجتمعة:

المرحلة الأولى: النظر في الواقع الذي نشأ الإنسان فيه، واستبيان عيوبه ونواقصه.

المرحلة الثانية: الاعتزال للتأمل في هذه العيوب والنواقص، والبحث عن سبل علاجها.

المرحلة الثالثة: العودة إلى المجتمع بهذا الحمل الثقيل والواجب المُلقى على ظهورهم، وهو الحلم بتغيير المجتمع إلى الأفضل من خلال العقل والحوار، كما كان يفعل الفلاسفة والأنبياء، أو من خلال تجميع خيوط السلطة في أيديهم كما فعل المشرّعون والسياسيون العظام.

والخلاصة أن الانتماء إلى “النخبة” الحقة بالمعنى الفكري والسياسي، ليس بالأمر الهيّن، وليس مجرد صفة يطلقها البعض على أنفسهم تعسفًا وبحثًا عن دور ومكانة اجتماعية.

وأن لا وجود لنخبة حقيقية لا يتمتع المنتمون إليها بالسمات الشخصية والنزاهة الفكرية بالمعنى الذي شرحه لنا الشاعر الراحل صلاح عبدالصبور.

ولم يمروا كذلك بمراحل التكوين الثلاثة التي حددها لنا، وهي المراحل التي تعمق الرؤية، وتصقل الوعي، وتقوي حضور الشعور بالواجب والمسؤولية الاجتماعية والوطنية بعيدًا عن كل صور التدليس والفهلوه الفكرية والسياسية، والمصالح الشخصية والعائلية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى