اخبار

كلمات جمال الغيطاني الأخيرة

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

“لا لما عليه اليوم المثقفين المصريين والعرب.

لا للعوار الثقافي والفساد الثقافي.

لا لخلق معارك هامشية تُبدد الوقت والجهد.

الآن يجب أن نُحارب جميعًا في خندق واحد، وهو الخندق الأخير الذي يُحافظ على وجودنا ألا وهو خندق الثقافة.

الآن معركتنا المُشتركة يجب أن تكون معركة الدفاع عن اللغة والوجدان والذاكرة.

قضية فلسطين في أصلها قضية ذاكرة؛ فاليهود جاءوا من أقاصي الأرض وخلقوا لهم ذاكرة في هذه الأرض من العدم، ونحن العرب في الطرف الآخر فقدنا ونفقد باستمرار ذاكرتنا وأرضنا بمخطط وضع لنا سلفًا”.

هكذا تحدث الأديب الكبير والمثقف الوطني الراحل جمال الغيطاني (9 مايو 1945- 18 أكتوبر 2015) الذي احتفلنا مؤخرًا بالذكرى التاسعة والسبعين لميلاده، مجيبًا على سؤالي: اليوم تقول “لا” لمن؟ في نهاية حوار أجريته معه عام 2008، ونُشر بجريدة المدينة السعودية.

وفي حقيقة الأمر إن حياة الأستاذ جمال الغيطاني ومنجزه الأدبي والثقافي يُجسدان نموذجًا رائعًا للإنسان والأديب والمثقف المصري الوطني العصامي الذي جعل القراءة والكتابة طريقًا وحياة، والذي اجتهد لتكوين نفسه وصقل موهبته وامتلاك أدواته عبر حياة شاقة وعميقة لم يعرف فيها ثقافة الفهلوة والانتهازية والوصولية، ولا رفاهية التأمل والمراقبة الهادئة للواقع من شرفات البرج العاجي؛ لأنه عاش دومًا في قلب الأحداث والمشكلات والحروب التي مر بها الوطن، وقريبًا من فضاء الشارع بصخبه وحراكه المستمر وتنوع نماذجه البشرية.

ولهذا كله خاض الراحل جمال الغيطاني في حياته معارك ثقافية وفكرية ووطنية مهمة دفاعًا عن المكان وخصوصيته، ودفاعًا عن اللغة والوجدان والذاكرة والثقافة والهوية والدولة الوطنية. أبرز تلك المعارك معركته مع وزير الثقافة الأسبق الفنان فاروق حسني في تسعينيات القرن الماضي، لرفضه سياسات الوزير التي أدت في رأيه إلى تراجع الحياة الثقافية واقتصارها على فعاليات شكلية تهدف لإحداث صخب ثقافي يلفت الانظار دون أدنى مردود إيجابي على وعي وثقافة المصريين. وقد ثار جدل وحوار كبير بينهما انتهى لاحقًا بالتصالح وتقريب وجهات النظر.

وكذلك معاركه مع التيارات الدينية المتشددة الوافدة على المجتمع المصري، والتي لا تتناسب مع تاريخ المصريين الثقافي المتميز بالتسامح الديني والفكري، والتعددية والانفتاح على الآخر. ومعاركه أيضًا مع كل أشكال استهدف الفن والثقافة والخصوصية والهوية المعمارية المصرية.

وبعيدًا عن المعارك الثقافية المهمة للراحل جمال الغيطاني التي يضيق المجال هنا عن ذكر أطرافها وتفاصيلها ومآلاتها، فقد كان صاحب مواقف وآراءً متميزة في العديد من القضايا الفكرية التي تعرض لها العقل المصري والعربي في القرن العشرين، ينبغي أن نعود اليوم لقراءتها وتأملها والاستفادة منها.

بعض هذه الآراء تظهر في موقفه من التراث والخصوصية والهوية الحضارية، ودعوته إلى ما أسماه “حداثة مقلوبة” تبدأ من استيعاب ونقد التراث؛ لأن أي مشروع حداثي لا يستند على فهم ونقد الماضي واحترام ميراثه الحضاري، هو مشروع محكوم عليه بالفشل.

ومثل قوله إن التراث هو مجموع دوائر؛ هناك دائرة تحت جلدي هي التراث العربي. وهناك دائرة تمس سطح جلدي الخارجي هي التراث الإنساني ككل. مع ملاحظة أن التراث العربي عنده لا يعني التراث الإسلامي فحسب، بل التراث الفرعوني والبابلي والآشوري والعبري، الذي انصهر في قلب التراث العربي.

ويقيني الشخصي أن هذا الموقف الأصيل من التراث عند جمال الغيطاني تأسس على دوافع وطنية وقومية صادقة تستهدف الحفاظ على خصوصيتنا الثقافية والحضارية حتى لا نضيع في طوفان العولمة الثقافية والنموذج الغربي الأمريكي.

ولعله في ذلك الموقف كان مستوعبًا لوجهة نظر الأديب والفيلسوف الروسي “أالكسندر سولجستين” التي تقول: “إذا أردت أن تبيد شعبًا، فلابد أولًا أن تقطعه عن ماضيه”؛ ولهذا نصب جمال الغيطاني نفسه بإخلاص شديد للدفاع عن التاريخ والمكان والمكانة واللغة والثقافة والهوية والذاكرة الوطنية والقومية بوصفها خطوط الدفاع الأولى عن أرضنا ووجودنا.

رحم الله الأديب الكبير الراحل جمال الغيطاني الذي نحتاج اليوم في ظل الصخب الدائر حولنا عن التنوير والحداثة والتكوين والتحصين والموقف من التراث القديم، إلى أن نفكر جيدًا في نصائحه وتحذيراته الأخيرة التي تقول: لا للعوار الثقافي والفساد الثقافي. لا لخلق معارك هامشية تُبدد الوقت والجهد. الآن يجب أن نُحارب جميعًا في خندق واحد، وهو الخندق الأخير الذي يُحافظ على وجودنا ألا وهو خندق الثقافة. الآن معركتنا المُشتركة يجب أن تكون معركة الدفاع عن اللغة والوجدان والذاكرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى